فوجئ روّاد الدورة الأخيرة من مهرجان «موازين» المغربي بعرض فقرة مرئية تُجسِّد المطرب الراحل عبد الحليم حافظ في صورة رسوم متحركة ثلاثية الأبعاد، ضمن استعراض موسيقي تكريمي لعمالقة الطرب العربي. لم تمرّ دقائق العرض حتى اشتعلت منصّات التواصل الاجتماعي بتعليقات حادّة، تباينت بين من أثنى على «الابتكار التقني» ومن اعتبره «تشويهًا» لرمز من رموز الغناء العربي. لكن الشرارة الأكبر اندلعت مع إصدار أسرة عبد الحليم بيانًا عاجلًا وصفت فيه ما حدث بـ«الفضيحة» وطالبت إدارة المهرجان بالاعتذار الرسمي وسحب كل المقاطع المتداولة.
استمر العرض ثلاث عشرة دقيقة، وظهر خلاله «العندليب الأسمر» في هيئة شخصية كارتونية تتحرّك على المسرح بتقنية الهولوجرام، مرتديًا بذلته السوداء الشهيرة، ويغنّي مقطعًا من أغنية «جانا الهوا». رافق الأداء استعراض راقص حديث وإضاءة ملوّنة عالية الحدة، بينما كانت الخلفية البصرية تمزج بين رسوم جرافيكية وخطوط ضوئية متقاطعة. الفكرة، بحسب مخرج الفقرة، هي «إعادة تقديم تراث عبد الحليم لجيل لا تربطه بالزمن الكلاسيكي صلة مباشرة». إلا أنّ التنفيذ، في نظر كثيرين، افتقر إلى الدقّة في تعابير الوجه وحركات الجسد، فجاءت النتيجة أقرب إلى صورة هزلية منها إلى تكريم.
أصدرت نهلة حافظ، ابنة شقيق الفنان الراحل والمتحدثة باسم العائلة، بيانًا شديد اللهجة، أكدت فيه أنّ استخدام شخصية عبد الحليم بالصورة الكارتونية «يمسّ كرامته الفنية ويشوّه إرثه الذي حرصت الأسرة على حمايته لعقود». وأشارت إلى أنّ إدارة المهرجان لم تستأذن الأسرة في استخدام اسم الفنان أو صورته، وأنّ العائلة تدرس «الخطوات القانونية» لمنع تكرار مثل هذا الانتهاك. البيان اعتبر ما جرى «تجريدًا للفنان من روحه وإحساسه»، مذكّرًا بأنّ عبد الحليم كان شديد الحرص على التفاصيل المسرحية، ولا يقبل بتقديم فنه في «قالب ساخر».
في المقابل، أصدرت لجنة التنظيم بيانًا مقتضبًا عبَّرت فيه عن «أسفها لأي سوء فهم»، مؤكِّدة احترامها الكامل لأسرة عبد الحليم ولجمهوره العريض. أوضح البيان أنّ الفقرة «اجتهدت فنيًّا» لتكريم رموز الطرب، وأنّ التقنية الرقمية «وسيلة لإبراز عظمة التراث لا للتقليل منها». كما تعهّد المنظِّمون بدراسة ملاحظات الأسرة ونقاد الموسيقى، وإعادة تقييم أي فقرة مستقبلية تتناول رموز الفن العربي الراحلين، تجنبًا لتكرار الجدل.
انقسم النقّاد إلى مدرستين؛ الأولى رأت أن استخدام الهولوجرام والرسوم المتحركة خطوة طبيعية في عصر الواقع المعزّز، وأنّ القضية تكمن في «عجز بعض الجمهور عن تقبّل أدوات حداثية لرؤية فن قديم». المدرسة الثانية ركّزت على أنّ التقنيات يجب ألا تُستعمل «بلا ضابط جمالي وأخلاقي»، محذّرة من التعامل مع الرموز مثل «شخصيات ألعاب فيديو». ويرى الكثيرون أنّ المشكلة الأساسية كانت في «جودة التنفيذ» لا الفكرة ذاتها؛ إذ إنّ أي تشويه في ملامح فنان بحجم عبد الحليم يُترجَم فورًا إلى استهزاء بإحساسه وجديته.
في القانون المصري والمغربي، تُصنَّف أسماء وصور المشاهير ضمن «الحقوق المعنوية» التي تظل سارية بعد الوفاة، ويحقّ للورثة وحدهم استغلالها أو منع الآخرين من ذلك. ورغم أن بعض التشريعات تسمح بالاستخدام «التعليمي أو غير الربحي»، فإن الفعاليات التجارية مثل المهرجانات تحتاج إلى إذن صريح من أصحاب الحقوق. وبحسب محامين متخصصين في حقوق الملكية الفكرية، يمكن لأسرة عبد الحليم مقاضاة أي جهة تثبت استفادتها المادية من صورة الراحل دون ترخيص. وبما أنّ «موازين» يبيع التذاكر ويرعى محتواه معلنون، يندرج العرض ضمن الاستغلال التجاري بنظر القانون.
على شبكات التواصل، عبّر قطاع واسع من الجمهور عن استيائه، معتبرين أنّ «روح عبد الحليم أكبر من أن تُختزل في كارتون يرقص مع إضاءة صاخبة». أشار البعض إلى أنّ المطرب الراحل نفسه كان يقف على المسرح «كشاعر»، وأنّ غناءه الكلاسيكي لا يحتمل مثل هذه المعالجات البصرية. آخرون رأوا أنّ الهجوم مبالغ فيه، وأنّ الأمر لا يعدو كونه «محاولة تجريبية» يمكن تطويرها لتبدو أكثر احترامًا بالتشاور مع مختصين. لكنّ الإجماع تقريبًا كان على ضرورة أخذ رأي أصحاب الحقوق قبل أي استخدام.
تطرح الأزمة سؤالًا جوهريًا: إلى أي مدى يستطيع الفن العربي استيعاب التكنولوجيا الحديثة دون طمس الهوية الأصيلة؟ فقد شهد العالم عروضًا هولوجرامية لألفيس بريسلي وويتني هيوستن طُورت بشراكة مع الورثة ومؤسسات متخصصة، وحققت نجاحًا تجاريًا وفنيًا. غير أنّ التجربة العربية تبدو في بدايتها، وتحتاج إلى ضوابط واضحة تحمي الرموز التراثية من التشويه وتفتح الباب أمام إبداع يحترم الماضي ويلامس الحاضر.
أوصى خبراء الموسيقى وتقنيات الوسائط المتعددة بعدّة إجراءات:
إشراك ورثة الفنان في كل مراحل التطوير، من اختيار الأغنية إلى تصميم الحركة.
الاستعانة بفنانين متخصصين في التحريك الواقعي لضمان دقة التعبير والتزام الملامح الأصلية.
بروفات جماهيرية مصغرة للحصول على انطباعات أولية قبل العرض الكبير.
إرفاق تنويه بصري يشرح أن الأداء رقمـي تكريمي وليس مادة أصلية للفنان.
إسناد الإخراج إلى جهة تمتلك أرشيفًا صوتيًا عالي الجودة، حتى لا تضطر لمعالجة تسجيلات منخفضة فتخرج النتيجة ركيكة.
كشفت «فضيحة ظهور عبد الحليم الكارتوني» في مهرجان «موازين» عن حساسية خاصة تربط الجمهور العربي برموزه الفنية، وعن حاجة ملحّة لوضع إطار قانوني وجمالي لاستخدام التقنيات الحديثة في إحياء التراث. وبينما ينادي البعض بمواكبة العالم الرقمي بلا قيود، يرفع آخرون صوتهم بأنّ لكل ابتكار حدودًا يقف عندها حين يتعلق الأمر بذاكرة الشعوب ووجدانها. ما حدث قد يكون درسًا مهمًا لصنّاع العروض المستقبلية: التكنولوجيا خادم قوي للفن، لكنها إذا افتقرت إلى الذوق والاحترام تحوّلت إلى أداة تدمير لمجدٍ صنعه الزمن وحفظته القلوب.
جميع الحقوق محفوظة 2024 © | MedMarkt