رغم التقدّم الكبير الذي أحرزته البشرية في مكافحة الأمراض المعدية خلال العقود الماضية، ما زالت بعض الأوبئة القديمة تشكل تهديدًا فعليًا للصحة العامة، وعلى رأسها مرض الملاريا. فقد أطلقت منظمة الصحة العالمية مؤخرًا تحذيرًا رسميًا من أن خطر عودة ظهور الملاريا لا يزال قائمًا، بل ويتزايد في بعض المناطق التي شهدت في السابق تحسنًا ملحوظًا في القضاء على المرض. وجاء هذا التحذير في ظل التحديات المناخية والبيئية والصحية التي ساهمت في إعادة بروز المرض في بؤر جديدة وأخرى كانت تحت السيطرة.
الملاريا هو مرض طفيلي تسببه كائنات دقيقة تُعرف بـ "البلازموديوم" وتُنقل إلى الإنسان عن طريق لدغات بعوضة الأنوفيل المصابة. يُعد هذا المرض من أقدم الأمراض التي عرفتها البشرية، وقد أودى بحياة الملايين عبر التاريخ. ورغم الجهود المبذولة للقضاء عليه، فإنه لا يزال يصيب أكثر من 200 مليون شخص سنويًا ويقتل مئات الآلاف، معظمهم من الأطفال في إفريقيا.
تشير تقارير الصحة العالمية إلى أن هناك مجموعة من العوامل ساهمت في تجدد خطر الملاريا:
التغيرات المناخية: ارتفاع درجات الحرارة وزيادة نسب الرطوبة ساعدت على توسيع نطاق انتشار البعوض الناقل للمرض إلى مناطق جديدة.
ضعف أنظمة الرعاية الصحية في بعض الدول: أدى إلى تراجع جهود الكشف المبكر والعلاج.
تراجع تمويل برامج المكافحة: قلّص من فعالية الحملات التوعوية والوقائية.
ظهور سلالات مقاومة: بدأت تظهر طفيليات مقاومة للعلاجات التقليدية، مما صعّب من عملية القضاء عليها.
تشير خريطة توزيع المرض إلى أن المناطق الاستوائية وشبه الاستوائية تظل الأكثر تأثرًا، وخاصة في إفريقيا جنوب الصحراء، ودول جنوب شرق آسيا، وبعض أجزاء أمريكا الجنوبية. لكن المفاجئ أن بعض الدول التي نجحت في القضاء على الملاريا بدأت تشهد حالات جديدة، ما دفع الجهات الصحية إلى إعلان التأهب.
عودة انتشار الملاريا يُعد خطرًا مضاعفًا، لأنه لا يؤثر فقط على صحة الأفراد، بل يعطّل أنظمة الرعاية الصحية، ويستنزف الموارد الاقتصادية. فالمرض يؤدي إلى ارتفاع معدلات الغياب عن العمل والدراسة، ويزيد من العبء على المستشفيات، خصوصًا في المناطق الفقيرة التي تعاني بالفعل من نقص في الموارد.
أطلقت المنظمة خطة استراتيجية عالمية لمكافحة الملاريا، تهدف إلى تقليل عدد الإصابات والوفيات بنسبة 90% بحلول عام 2030. وتشمل الخطة:
توزيع ناموسيات مشبعة بالمبيدات.
تطوير لقاحات فعالة.
تعزيز البحوث العلمية حول الطفيليات والبعوض.
دعم الدول الأكثر تأثرًا ماليًا وفنيًا.
شهدت السنوات الأخيرة تطورات واعدة في مجال اللقاحات المضادة للملاريا. وقد وافقت بعض الهيئات الصحية على استخدام لقاح "RTS,S" الذي يُعد أول لقاح جزئي تم تطويره ضد المرض. ويجري العمل حاليًا على تحسين فعاليته، وتوسيع استخدامه في عدد من الدول الإفريقية.
لكن حتى مع توفر اللقاح، تؤكد الجهات المختصة أن اللقاحات ليست كافية وحدها، بل يجب أن تتكامل مع الإجراءات الوقائية والعلاجية الأخرى.
من أهم الوسائل المتبعة لتقليل خطر الإصابة بالملاريا:
استخدام الناموسيات على الأسرة أثناء النوم.
رش المنازل بمبيدات الحشرات.
تجنب التواجد في المناطق المفتوحة وقت الغروب.
ارتداء ملابس تغطي الجلد بالكامل.
أخذ أدوية وقائية عند السفر إلى مناطق موبوءة.
رغم وضوح الخطة العالمية، لا تزال هناك عدة عقبات تعترض طريق النجاح:
صعوبة الوصول إلى المناطق النائية.
نقص الكوادر الطبية المؤهلة.
مقاومة المجتمعات المحلية لبعض أساليب المكافحة.
تغير أنماط انتشار البعوض نتيجة التغير المناخي.
من أهم عوامل النجاح في أي حملة صحية هي التوعية. فالمجتمعات التي تدرك خطورة الملاريا، وتفهم كيفية الوقاية منها، تكون أكثر استعدادًا للتفاعل مع الإجراءات الرسمية. ولهذا تعمل وزارة الصحة في الدول المعنية على إعداد حملات إعلامية وشراكات مع المدارس والجامعات لتعزيز الوعي.
رغم كل ما تحقق من تقدم في مكافحة الملاريا، لا يزال الخطر قائمًا، وربما أشد من السابق بسبب الظروف البيئية والتغيرات الصحية العالمية. إن المعركة ضد هذا المرض لم تُحسم بعد، والنجاح في مواجهته يتطلب تضافر جهود الحكومات، والمنظمات الدولية، والمجتمع المدني.
يبقى الأمل في العلم والتكنولوجيا، وفي قدرة الإنسان على التكيّف مع التحديات، وعلى الالتزام بالوقاية، باعتبارها خط الدفاع الأول. فكل خطوة نحو الوعي والوقاية هي خطوة نحو القضاء النهائي على أحد أخطر الأمراض التي عرفها العالم.
جميع الحقوق محفوظة 2024 © | MedMarkt