لم يعد الحديث عن الإيجار القديم في مصر مجرد نقاش عابر على موائد المقاهي أو جلسات العائلات، بل تحوّل إلى قضية كبرى تشغل ملايين الملاك والمستأجرين معًا. ومع بدء تطبيق التعديلات الجديدة على قانون الإيجارات، دخلت العلاقة بين الطرفين مرحلة حساسة مليئة بالارتباك، حيث يترقب كل جانب كيف ستُترجم النصوص القانونية إلى واقع عملي. فالمؤجرون يرون أن القانون الجديد أعاد إليهم بعض حقوقهم المهدرة، بينما يتوجس المستأجرون من تبعات مالية قد تقلب حياتهم رأسًا على عقب.
قانون الإيجار القديم وُلد في ظروف استثنائية خلال منتصف القرن الماضي، حين أرادت الدولة حماية المواطنين محدودي الدخل من جشع بعض الملاك وارتفاع أسعار العقارات. جرى حينها تثبيت القيمة الإيجارية لمستويات منخفضة جدًا، وظلت هذه القيم ثابتة لعقود طويلة حتى مع تغيّر الظروف الاقتصادية بشكل كامل.
بمرور الوقت، أصبح المشهد مختلًا: شقق في مواقع حيوية تُؤجر بعشرات الجنيهات فقط، في حين تصل قيمتها السوقية إلى آلاف الجنيهات شهريًا. هذا الخلل تسبب في تراكم مشكلات اجتماعية واقتصادية، وولّد شعورًا بالظلم لدى الملاك الذين عجزوا عن صيانة عقاراتهم، بينما استفاد بعض المستأجرين من أسعار رمزية.
لم يكن التغيير وليد اللحظة. لعقود طويلة جرت محاولات لتعديل القانون، لكن حساسية الملف كانت تحول دون اتخاذ قرارات جذرية. الجديد أن الأوضاع الاقتصادية وارتفاع تكاليف المعيشة فرضت واقعًا مختلفًا، لم يعد معه بقاء الوضع كما هو مقبولًا.
الدولة سعت إلى تحقيق نوع من التوازن بين حماية المستأجر من الطرد المفاجئ وبين إعادة الاعتبار للمالك. فجاءت التعديلات الأخيرة لتقر زيادة تدريجية في الإيجارات، وتمنح فترة انتقالية تسمح بتوفيق الأوضاع، مع استحداث آليات جديدة لحسم النزاعات بعيدًا عن المحاكم المزدحمة.
القانون الجديد وضع عدة قواعد أساسية يمكن تلخيصها في:
رفع تدريجي للقيمة الإيجارية بحيث تقترب مع الوقت من سعر السوق.
تطبيق زيادات سنوية محددة بنسبة متفق عليها، بما يضمن وضوح العلاقة وعدم تركها للتقديرات الشخصية.
تفعيل لجان فض المنازعات للنظر في أي خلاف بين المالك والمستأجر دون اللجوء الفوري للقضاء.
تحديد مدد انتقالية تمنح المستأجرين مهلة لإعادة ترتيب أوضاعهم قبل سريان الزيادات الكاملة.
إعطاء الأولوية للعقود السكنية والتجارية القديمة التي كانت سببًا في معظم الإشكالات.
بالنسبة للمستأجرين، مثّلت التعديلات مصدر قلق حقيقي:
هناك أسر تسكن في شقق بإيجارات لا تتجاوز مئات الجنيهات منذ ثلاثين أو أربعين عامًا، والآن ستواجه زيادات كبيرة مقارنة بما اعتادت عليه.
البعض يخشى من عدم القدرة على دفع القيمة الجديدة، مما قد يضطرهم إلى ترك مساكنهم والبحث عن بدائل في سوق عقارية مشتعلة.
فئة أخرى ترى أن الأمر قد يكون فرصة لإبرام عقود جديدة واضحة تضمن استقرارًا قانونيًا وتمنحهم حماية من النزاعات.
بعض كبار السن عبروا عن مخاوف مضاعفة، معتبرين أن أي تغيير مفاجئ قد يُربك حياتهم ويؤثر على استقرارهم الأسري.
الملاك من جانبهم استقبلوا التعديلات بنوع من الارتياح، لكن مع بعض التحفظات:
شريحة كبيرة اعتبرت أن القانون أنصفهم بعد سنوات طويلة من "الإجحاف"، حيث كانوا يحصلون على إيجارات لا تكفي حتى لصيانة المصاعد أو إصلاح السباكة.
بعضهم يرى أن الزيادات ما تزال أقل بكثير من القيمة الحقيقية للوحدات، لكنهم اعتبروا أن بداية الإصلاح أفضل من بقاء الوضع جامدًا.
آخرون يعتقدون أن التطبيق الفعلي على الأرض سيكشف ثغرات جديدة تحتاج إلى تعديلات لاحقة.
ملاك كبار في المناطق التجارية عبّروا عن أملهم في أن تُعيد التعديلات تنشيط السوق وتُحرّر محالًا تجارية تساوي ملايين الجنيهات لكنها مؤجرة بأبخس الأسعار.
التبعات الاقتصادية للقانون الجديد ستكون واسعة:
زيادة المعروض من الشقق بعد أن يترك بعض المستأجرين وحداتهم بسبب الزيادة.
ارتفاع أسعار بعض الوحدات في السوق الحر نتيجة انتقال الطلب من شقق الإيجار القديم إلى الجديدة.
إعادة هيكلة النشاط التجاري في المناطق الحيوية التي كانت تشهد إيجارات زهيدة لم تعد موجودة.
تشجيع الملاك على الاستثمار في الصيانة والتطوير بعدما أصبحت لديهم موارد إضافية.
إعادة توزيع السكان مع انتقال بعض الأسر إلى مناطق أبعد أو أقل تكلفة.
النقطة الأكثر إثارة للجدل هي كيفية تحديد القيمة الإيجارية الجديدة. الآلية المعتمدة تشمل:
تقدير سعر المثل في المنطقة من خلال لجان متخصصة.
مراعاة نوع الوحدة سواء سكنية أو تجارية ومساحتها وموقعها.
تطبيق زيادة تدريجية تصل بالقيمة إلى المستهدف على مدى سنوات.
إعطاء فرصة للمستأجرين لتقديم تظلمات أمام اللجان إذا شعروا بالظلم.
أهمية اللجان تكمن في أنها:
توفر حلاً سريعًا ووديًا بعيدًا عن دوامة المحاكم.
تمنح المستأجر فرصة لإثبات ظروفه المالية أو الاعتراض على تقديرات مبالغ فيها.
تساعد المالك على تحصيل حقوقه في إطار منظم.
تُسهم في تقليل التوتر بين الطرفين وتقديم حلول وسطية.
القضية ليست اقتصادية فقط، بل لها أبعاد اجتماعية عميقة:
ملايين الأسر نشأت واستقرت في شقق الإيجار القديم، وأي تغيير مفاجئ قد يهدد استقرارها.
في المقابل، هناك ملاك لم يستفيدوا من أملاكهم لعقود طويلة، وبعضهم كان يعتمد على الإيجار كمصدر دخل رئيسي.
الجدل المتصاعد على مواقع التواصل يعكس حالة الانقسام المجتمعي بين من يرى التعديلات "عدالة مؤجلة" ومن يصفها بأنها "عبء جديد".
من الصعب التنبؤ بالمسار الدقيق، لكن السيناريوهات تشمل:
استقرار تدريجي إذا التزم الطرفان بالتفاوض والتعاون.
تصاعد النزاعات إذا رفض بعض المستأجرين الزيادات أو بالغ بعض الملاك في مطالبهم.
تدخلات حكومية جديدة إذا تبين أن التطبيق العملي يهدد الاستقرار الاجتماعي.
إمكانية ظهور سوق فرعية لعقود الإيجار القديمة المتبقية، حيث يسعى المستأجرون لبيع حق الانتفاع بطريقة غير مباشرة.
للملاك: توثيق العقود الجديدة رسميًا لتجنب أي نزاع لاحق.
للمستأجرين: مراجعة ميزانيتهم مبكرًا وإيجاد حلول بديلة إذا لزم الأمر.
كلا الطرفين: تجنب التصعيد، واللجوء إلى اللجان أولًا.
المجتمع المدني والإعلام: نشر الوعي القانوني لشرح حقوق الطرفين.
العدالة الكاملة قد تكون صعبة التحقيق في مثل هذه الملفات المعقدة. لكن المؤكد أن القانون خطوة مهمة نحو تصحيح أوضاع مختلة استمرت لعقود. ومع ذلك، يبقى نجاح التجربة مرتبطًا بمدى مرونة التنفيذ وتفهّم الأطراف المعنية لحساسية الموقف.
الإيجار القديم كان ملفًا شائكًا يؤجل الجميع الاقتراب منه، حتى جاءت اللحظة التي فرضت التغيير. التعديلات الجديدة أعادت رسم العلاقة بين المؤجر والمستأجر، لكنها في الوقت نفسه فجّرت ارتباكًا واسعًا بين الطرفين. وبينما يرى الملاك أنهم استعادوا بعض حقوقهم، يتوجس المستأجرون من أعباء جديدة قد تعصف باستقرارهم.
الحل ليس في النصوص وحدها، بل في وعي اجتماعي يوازن بين مصلحة الطرفين، وتعاون حقيقي يضمن استقرار السوق العقارية ويحافظ على السلم المجتمعي. ومع مرور الوقت، ستكشف التجربة إن كان القانون نجح في إعادة العدالة المنتظرة، أم أنه فتح الباب لجولة جديدة من الجدل والصراع.
جميع الحقوق محفوظة 2024 © | MedMarkt