أصدر الرئيس عبد الفتاح السيسي توجيهات عاجلة إلى الحكومة والجهات الاقتصادية المعنية باتخاذ حزمة احتياطات مالية لمواجهة التداعيات المحتملة للتصعيد الإقليمي الراهن. تأتي هذه الخطوة في ضوء التطورات المتسارعة في الشرق الأوسط، وما قد تسببه من ضغوط على أسواق الطاقة والإمدادات، فضلًا عن أثرها المتوقع على تدفقات الاستثمار الأجنبي وسعر الصرف. التوجيه الرئاسي يستهدف تعزيز الاستقرار النقدي وتقوية جدار الحماية المالي للدولة في مواجهة أي اهتزازات مفاجئة.
شهدت المنطقة خلال الأسابيع الأخيرة ارتفاعًا ملموسًا في مستويات التوتر العسكري والسياسي بعد سلسلة من الحوادث المتبادلة بين عدد من الأطراف الإقليمية. وقد أدى هذا التصعيد إلى مخاوف عالمية بشأن أمن الممرات الملاحية وإمدادات الطاقة، وهو ما انعكس على ارتفاع أسعار النفط وتذبذب مؤشرات البورصات في الشرق الأوسط. في ظل هذا المناخ، رأت القيادة المصرية ضرورة إعداد سيناريوهات استباقية تحمي الاقتصاد الوطني من أي صدمة محتملة في الأسواق العالمية، وتضمن استمرار تمويل المشروعات الاستراتيجية وخطط التنمية دون تعثر.
تتضمن خطة الاحتياطات التي كلف بها الرئيس عدة محاور رئيسية. أول هذه المحاور يتعلق بتحسين سيولة النقد الأجنبي عبر تدبير خطوط تمويل إضافية مع مؤسسات دولية وزيادة رصيد الاحتياطي النقدي تدريجيًا. المحور الثاني يركّز على ترشيد الإنفاق العام في البنود غير الضرورية وتأجيل بعض المشروعات التي لا تمثل أولوية عاجلة، بما يفسح مجالًا لموارد إضافية تستخدم في تعزيز برامج الحماية الاجتماعية ودعم السلع الأساسية إذا لزم الأمر. أما المحور الثالث فيتمثل في وضع حوافز أكثر تنافسية للاستثمارات العربية والأجنبية، مع إعفاءات ضريبية وتسهيلات إجراءات تضمن تدفق رؤوس أموال جديدة تعزز مركز العملة المحلية أمام أي ضغوط.
كُلف البنك المركزي بإدارة السياسة النقدية بما يحقق أمرين متوازيين: احتواء أي موجة تضخمية قد تطرأ نتيجة ارتفاع أسعار الطاقة، والحفاظ على استقرار سعر الصرف من خلال آليات مرنة تضمن توفر العملة الصعبة عند الضرورة. وتشمل الإجراءات المنتظرة مراجعة أسعار الفائدة بصورة دورية وفق تطورات السوق، مع إمكانية استخدام أدوات السوق المفتوحة وعمليات مبادلة العملات إذا لزم الأمر. كما سيعمل البنك المركزي على زيادة التنسيق مع البنوك الحكومية والخاصة لضخ السيولة في القطاعات الإنتاجية ذات الأولوية، خاصة الزراعة والصناعة الغذائية، تحسبًا لأي اضطراب في سلاسل التوريد العالمية.
على صعيد المالية العامة، تم توجيه وزارة المالية إلى توسيع قاعدة الإيرادات من خلال تحسين كفاءة التحصيل الضريبي وتوسيع مظلة الفاتورة الإلكترونية لمنع التهرب. إضافة إلى ذلك، ستركّز الوزارة على تنشيط الأصول غير المستغلة عبر المشاركة مع القطاع الخاص في مشروعات تنموية توفر تدفقات نقدية دولارية. ويأتي ذلك بالتوازي مع مراجعة آليات الدعم لضمان وصوله للفئات المستحقة وتخفيض الهدر المالي، مع الحفاظ على برنامج الحماية الاجتماعية القائم على دعم السلع التموينية والتحويلات النقدية المشروطة.
في ظل احتمالات ارتفاع تكاليف المعيشة جراء التطورات الإقليمية، شدد الرئيس على ضرورة توسيع برامج الحماية الاجتماعية وتوفير مخزون استراتيجي من السلع الأساسية يكفي ستة أشهر على الأقل. كما وجّه بسرعة صرف منحة استثنائية لأصحاب المعاشات والعاملين بالقطاع العام إذا استدعت الظروف، بهدف تخفيف الأعباء عن الشرائح الأقل دخلًا. ستتابع وزارة التضامن الاجتماعي بالتنسيق مع الوزارات المعنية تنفيذ هذه المبادرات، مع الاعتماد على قواعد بيانات دقيقة لضمان وصول المساعدات لمستحقيها في التوقيت المناسب.
نظرًا لأن أي تصعيد عسكري بالمنطقة قد يؤثر مباشرة في أسعار النفط والغاز، تم تكليف وزارة البترول بوضع خطة طوارئ لضمان تلبية الاحتياجات المحلية من المحروقات دون انقطاع. تشمل الخطة التعاقد المسبق على شحنات بديلة وتنويع مصادر الاستيراد لتقليل الاعتماد على أي ممر ملاحي بعينه، إضافة إلى الإسراع في تنفيذ مشروعات الطاقة المتجددة لتقليل فاتورة الاستيراد على المدى المتوسط. كما يجري تقييم آليات تسعير الوقود محليًا بحيث تُمتص الصدمات السعرية العالمية تدريجيًا، دون أن يتحملها المواطن بصورة مفاجئة.
شددت التوجيهات الرئاسية على أهمية شراكة القطاع الخاص في تعزيز الثقة بالاقتصاد الوطني. من المتوقع أن تشهد المرحلة المقبلة إطلاق حزمة تحفيزية جديدة تتضمن تسهيلات ائتمانية وضريبية للمشروعات الصناعية والزراعية التصديرية، خصوصًا تلك التي توفر بدائل للورادات. وتستهدف هذه الحوافز استقطاب استثمارات محلية وأجنبية قادرة على خلق فرص عمل وزيادة حصيلة الصادرات، ما يسهم في تحسين ميزان المدفوعات وتخفيف الضغط على العملة الصعبة.
وجه الرئيس بتشكيل لجنة عليا برئاسة رئيس مجلس الوزراء وعضوية محافظ البنك المركزي ووزراء المالية والتجارة والبترول، لمتابعة تنفيذ الاحتياطات المالية وتقديم تقارير أسبوعية عن المستجدات. تعمل اللجنة على تفعيل نظام إنذار مبكر يرصد أي تحركات مفاجئة في مؤشرات الاقتصاد الكلي، مثل معدلات التضخم وسعر الصرف والاحتياطي النقدي. في حال ظهور أي إشارات تحذيرية، ستوصي اللجنة باتخاذ إجراءات تصحيحية فورية، بما يضمن الحفاظ على استقرار الأسواق ومنع المضاربة على العملة أو السلع الاستراتيجية.
يرى محللون اقتصاديون أن هذه الخطوة الاستباقية تعزز ثقة المستثمرين في قدرة الدولة على إدارة الأزمات المالية. ويتوقعون أن تسهم في الحد من تقلبات العملة بمجرد تنفيذ محاور الخطة، خصوصًا إذا نجحت الحكومة في جذب تدفقات استثمارية جديدة واستكمال الإصلاحات الهيكلية الجارية. وعلى الرغم من تحذير بعض الخبراء من تأثير محتمل على موازنات المشروعات غير الضرورية، إلا أنهم أكدوا أن الأولوية الآن تكمن في حماية الاقتصاد من صدمات خارجية محتملة وضمان استمرار برامج الحماية الاجتماعية.
يأتي توجيه الرئيس باتخاذ احتياطات مالية في توقيت حساس تعيش فيه المنطقة حالة من عدم اليقين الجيوسياسي. عبر محاور متعددة تشمل تعزيز الاحتياطي النقدي، وترشيد الإنفاق، وتحفيز الاستثمارات، تسعى الحكومة إلى بناء درع مالي قوي يقي الاقتصاد من المفاجآت ويصون استقرار معيشة المواطنين. ومن خلال التنسيق الوثيق بين المؤسسات المالية والحكومية والقطاع الخاص، تبدو مصر عازمة على مواجهة أي تداعيات محتملة للتصعيد الإقليمي، مع التزام واضح بحماية الفئات الأكثر تأثرًا والحفاظ على مسار التنمية المستدامة.
جميع الحقوق محفوظة 2024 © | MedMarkt