يتعرض كثير من الناس لمواقف يومية تستدعي الرجوع إلى الأحكام الشرعية، ومنها حالة شائعة: شخص يعثر على مال ضائع في الشارع، ويحتفظ به حتى يجد صاحبه، ثم يعرض عليه هذا الأخير مكافأة مالية تقديرًا لأمانته. فهل يجوز شرعًا أخذ هذه المكافأة؟ وهل تعتبر من حق الشخص الذي وجد المال وأعاده؟
هذا التساؤل طرحه أحد المواطنين خلال برنامج فتاوى دينية مباشر، ليجيب عليه أمين الفتوى بدار الإفتاء المصرية بإجابة واضحة أثارت اهتمام كثير من المتابعين، لما تحمله من دلالة شرعية وتربوية.
أكد أمين الفتوى أن الأصل في الشريعة الإسلامية أن من يجد مالًا ضائعًا ويسلمه لصاحبه فقد قام بواجب ديني وأخلاقي عظيم، ويؤجر على ذلك عند الله، إلا أنه لا مانع شرعًا من أن يقبل مكافأة أو هدية من صاحب المال بشرط أن تكون برضا الأخير ودون اشتراط مسبق.
وقال: "إذا أعطاك صاحب المال مكافأة من تلقاء نفسه دون أن تطلبها، فلا حرج في قبولها، لأنها ليست من باب المقابل، ولكنها من باب الشكر والعرفان، وهي جائزة شرعًا."
وأشار إلى أن من يرفض أخذ المكافأة طمعًا في الأجر الكامل من الله فذلك أولى وأفضل، لكن لا إثم على من يقبلها طالما لم تكن مشروطة مسبقًا أو مفروضة على صاحب المال.
أوضح أمين الفتوى أن وضع شرط مسبق مقابل إعادة المال الضائع يخالف المقصد الشرعي من الأمانة، مشيرًا إلى أن المسلم مأمور برد الأمانات دون انتظار مقابل، واستشهد بقول الله تعالى: "إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها."
وأضاف: "لا يجوز لك أن تقول لصاحب المال: لن أعطيك مالك إلا إذا دفعت لي كذا أو كذا، لأن هذا يُعد استغلالًا لحاجة الإنسان، وربما يكون في حالة ضعف أو قلق على ماله، ويشبه هذا التصرف الابتزاز وليس الإحسان."
وبناءً عليه، فإن من يعثر على مال ضائع ثم يساوم صاحبه عليه أو يشترط مقابلًا ماليًا لإرجاعه، يقع في إثم كبير، ويخالف تعاليم الإسلام في حفظ الحقوق والأمانات.
في الفقه الإسلامي، يُطلق على المال الضائع اسم "اللقطة"، وقد خصصت لها كتب الفقه بابًا مستقلاً نظرًا لأهميتها وكثرة وقوعها في حياة الناس.
واللقطة تُعرف بأنها: مال أو شيء مفقود لا يُعرف له مالك، ويجده أحد الناس في الطريق أو الأماكن العامة.
وقد وضعت الشريعة الإسلامية ضوابط دقيقة للتصرف في اللقطة، أهمها:
تعريف المال المُلتقط لمدة عام كامل إذا كان له قيمة.
بذل الجهد في البحث عن صاحبه ونشر أوصافه في الأماكن العامة.
عدم التصرف في المال إلا بعد انقضاء مدة التعريف وعدم ظهور صاحبه.
في بعض الحالات، يعثر شخص على مال ضائع ويأخذه دون البحث عن صاحبه أو دون نية الإرجاع، فينفقه أو يحتفظ به على أنه "غنيمة" دون وجه حق.
وقد حذر العلماء من هذا التصرف، مؤكدين أنه أكلٌ للمال الحرام، لأنه مال له صاحب معلوم في علم الله، ويجب رده إليه أو التصدق به في حالة اليأس من العثور عليه.
وقال الفقهاء: "من أكل مال اللقطة دون تعريف أو دون إذن الشارع، فقد أكل سُحتًا، ويجب عليه الضمان عند ظهور المالك."
إذا وجد شخص مالًا ضائعًا ولم يتمكن من معرفة صاحبه بعد مرور مدة التعريف الشرعية، جاز له أن يتملك المال أو يتصدق به بشرطين:
أن يكون قد بذل جهدًا كافيًا للتعريف بصاحبه.
أن يكون ماله مثل حالته أي غير فاسد أو غير معرض للهلاك.
وقد نص الفقهاء على أن التصرف في اللقطة بهذه الطريقة لا يسقط حق المالك الأصلي، فإذا ظهر يومًا ما وجب رد المال إليه أو قيمته إن لم يكن باقيًا.
جاء في الأثر أن أحد الصحابة وجد درهمًا في الطريق، فظل يعرفه سنة كاملة، ولم يظهر صاحبه، فتصدق به، وقال: "اللهم اجعل أجره لصاحبه إن كان له حق عندك."
وهذا النموذج من أعلى صور الورع والأمانة التي تربى عليها المسلمون الأوائل، وهو ما تحث عليه الشريعة، أن يكون الإنسان مسؤولًا لا عن نفسه فحسب، بل عن مال غيره إن وصل إليه.
جعل الإسلام الأمانة من صفات المؤمنين، وقرنها بالصلاة والزكاة والصيام، بل وصف الله بها رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم حين قال: "وما أنا عليكم بحفيظ" و"إني لكم رسول أمين".
كما ورد في الحديث الصحيح: "أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك"، وهو ما يدل على أن المسلم لا ينتظر الجزاء من الناس، بل من الله، ومع ذلك لا مانع أن يُشكر من الآخرين أو يُكافأ، بشرط أن لا تكون المكافأة مشروطة أو فرضًا.
رغم وضوح الأحكام الشرعية، إلا أن كثيرين يرون أن تقديم المكافأة أحيانًا يُعد حافزًا عمليًا لنشر قيم الأمانة، خاصة بين الشباب، وأن من يعثر على مال ويُكرم برده، من الطبيعي أن يُكافأ بالمال أو العرفان.
لكن الشرع لا يُمانع هذا الشعور طالما لم يتحول إلى اتجار بالمواقف أو فرض تعويض مادي مقابل أداء الواجب الأخلاقي، بل يدعو إلى جعل الأمانة سلوكًا أصيلًا لا يرتبط بالمقابل.
إذا وجدت مالًا في الطريق، فاعلم أن الشريعة الإسلامية نظمت كيفية التعامل معه بدقة، وفق الخطوات التالية:
لا تتسرع في التصرف فيه، فهو مال له صاحب يجب البحث عنه.
إن كان المال ذا قيمة، يجب تعريفه في الأماكن العامة لمدة عام.
إذا ظهر صاحبه، فأعده فورًا دون اشتراط أو مساومة.
إن قدم لك مكافأة من تلقاء نفسه، يجوز لك قبولها إن أردت.
إن لم يظهر صاحبه بعد التعريف، لك أن تتصرف فيه أو تتصدق به بنية الأمانة.
احرص دومًا على أن يكون سلوكك نابعًا من ضمير حي، وإيمان بالجزاء الأخروي.
بهذا الفهم، يتحقق التوازن بين الأخلاق والفقه، وبين حق الإنسان وشكر المجتمع، ويظل الأصل أن الأمانة لا تحتاج ثمنًا، لأنها من صميم العقيدة، وسلوك المؤمن الصادق.
جميع الحقوق محفوظة 2024 © | MedMarkt