أمينة الفتوى تحسم الجدل: ترك العمل بدون إذن وتعطيل مصالح الناس من أجل الحج لا يجوز شرعًا
مع اقتراب موسم الحج كل عام، تتجدد الأسئلة الشرعية والاجتماعية حول مدى مشروعية ترك العمل من أجل أداء فريضة الحج، خاصة في الحالات التي لا تمنح فيها جهة العمل إجازة رسمية. وقد لاحظ كثيرون في الأعوام الأخيرة تزايد حالات تغيب بعض الموظفين والعاملين عن وظائفهم دون إذن مسبق بحجة "نية الذهاب إلى بيت الله الحرام"، مما يسبب مشكلات إدارية وتعطل مصالح المواطنين.
وفي ضوء هذا الواقع، خرجت دار الإفتاء المصرية لتوضيح الموقف الشرعي بخصوص هذه القضية الحساسة التي تمس جوانب دينية ووظيفية واجتماعية في آن واحد.
تفاصيل رسمية
أكدت الدكتورة وسام الخولي، أمينة الفتوى بدار الإفتاء المصرية، أن الشرع لا يجيز ترك العمل أو التسبب في تعطيل مصالح الناس من أجل الحج دون إذن من جهة العمل.
وأوضحت أن أداء فريضة الحج يجب ألا يتسبب في ضرر للآخرين، لأن الإسلام لا يقوم فقط على العبادات الفردية، بل يهتم كذلك بالمسؤولية المجتمعية والحقوق المتبادلة بين الناس.
وأضافت أن فريضة الحج واجبة على المسلم المستطيع، والاستطاعة هنا لا تشمل فقط القدرة المالية والجسدية، وإنما تشمل كذلك القدرة التنظيمية، ومنها أن يكون أداء الفريضة لا يترتب عليه إثم أو ضرر أو تعطيل مصلحة عامة.
وأكدت الخولي أن العامل الذي يترك وظيفته دون إذن صريح ليؤدي الحج يرتكب مخالفة شرعية، لأن في تصرفه إضرارًا بمؤسسته، وتعطيلًا لمصالح الناس المرتبطة بخدماته.
كما أشارت إلى أن الشريعة الإسلامية لم تُوجب الحج على الفور بمجرد تحقق القدرة المالية، بل جعلته فرضًا على التراخي، ما يعني أن المسلم يمكنه تأجيل الحج دون أن يكون ذلك معصية، طالما هناك عذر معتبر.
ولفتت إلى أن التنسيق مع جهة العمل شرط أساسي، خاصة في الوظائف التي ترتبط بتقديم خدمات يومية كالأطباء، والمعلمين، والعاملين في المرافق العامة، فهؤلاء لا يمكنهم التغيب فجأة دون بديل أو ترتيب مسبق.
وأضافت: "لا يجوز للمسلم أن يؤدي حق الله بوسيلة تُهدر بها حقوق العباد، فالعبادة لا تبرر الإهمال، ولا يُقبل عمل صالح يترتب عليه فساد أو ظلم".
تنبيهات
-
أداء الحج لا يُعفي من الالتزام الوظيفي: الحج عبادة عظيمة، لكنها لا تعطي مبررًا لتجاوز القوانين أو الأنظمة التي تنظم سير العمل، لأن الإضرار بالغير حرام شرعًا.
-
الاستئذان من جهة العمل واجب شرعي وإداري: لا يجوز أداء فريضة الحج دون إذن مسبق، سواء في القطاع الحكومي أو الخاص، حتى لا يُتهم الشخص بالتقصير أو الهروب من المسؤولية.
-
تأجيل الحج بسبب ظروف العمل لا يُعد إثمًا: من رحمة الله أن فريضة الحج فُرضت على التراخي، لذلك يمكن أداؤها في أي عام لاحق تتوافر فيه الظروف الملائمة دون تأنيب ضمير أو خوف من التقصير.
-
عدم الحصول على إجازة يُعتبر مانعًا شرعيًا: مثلما يُعد عدم القدرة المالية مانعًا، فإن عدم توفر إذن العمل يُعد عذرًا شرعيًا يبيح تأجيل الفريضة.
-
التشاور مع المسؤولين واجب قبل اتخاذ القرار: يجب على كل من ينوي أداء الحج أن يُبلغ جهة عمله رسميًا قبل السفر، حتى يتم الترتيب لتسيير العمل وعدم ترك فراغ في الأداء.
-
النية الطيبة لا تبرر الخطأ الإداري: حتى وإن كانت نيتك الحج والتقرب إلى الله، لا يصح أن تُحقق ذلك على حساب نظام العمل أو راحة الآخرين.
-
التوازن بين العبادات والمعاملات: الإسلام دين يوازن بين العبادة وأداء الحقوق، ولا يُعذر المسلم في التعدي على أحد بدعوى أداء فريضة.
أمثلة توضيحية من الواقع
كثير من المؤسسات والمصالح الحكومية تعاني من أزمة حقيقية في موسم الحج، حيث يُفاجأ المسؤولون بغياب موظف مهم في توقيت حرج، وقد يضطر البعض لتغطية مهامه، ما يسبب ضغطًا نفسيًا وعمليًا على الزملاء.
في إحدى المستشفيات، غاب طبيب وحدة العناية المركزة دون تنسيق، ما تسبب في تعطيل الجداول وتكدس المرضى، رغم أنه لم يكن مضطرًا للسفر هذا العام، لكنه اعتبر أن الحج لا يُنتظر.
وفي حالة أخرى، تم إنهاء خدمة موظف حكومي بعد تغيبه عن العمل دون إذن، رغم محاولته تبرير موقفه بأنه ذهب "للعبادة".
موقف الشريعة من تقديم الحج على الواجبات الأخرى
الشريعة الإسلامية واضحة في ترتيب الأولويات، فالمسلم لا يترك نفقة عياله ليؤدي العمرة، ولا يهمل والدته المريضة ليخرج للجهاد، ولا يعطّل مصلحة عامة لأداء فريضة يمكن تأجيلها.
والأصل في العبادات أنها لا تُرتكب على حساب الحقوق، لأن العبادة الحقيقية هي التي تجمع بين الإخلاص لله، وعدم الإضرار بالناس.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار"، وهذا الحديث أصل شرعي في كل موقف مشابه، فكل عبادة يُصاحبها ضرر بالغير تُصبح باطلة أو مؤجلة.
خلاصة
أوضحت دار الإفتاء، عبر أمينة الفتوى وسام الخولي، أن ترك العمل دون إذن وتعطيل مصالح الناس بحجة أداء فريضة الحج لا يجوز شرعًا، لأن الإسلام لا يبيح أن تُؤدى العبادات على حساب الآخرين.
وأكدت أن الحج واجب على التراخي، ويمكن تأجيله دون إثم، إذا تعارض مع مصلحة عامة أو التزامات وظيفية.
وتبقى الدعوة الأهم هي إلى التوازن، والحكمة، والتخطيط السليم، واحترام ضوابط العمل، مع التوكل على الله في وقت مناسب لأداء فريضة الحج بلا ضرر ولا إضرار.
ففي الإسلام، لا عبادة حقيقية دون احترام للواجبات، ولا تقرب إلى الله بالتقصير في مسؤولياتنا تجاه الآخرين.