في عصر تتطور فيه التكنولوجيا الطبية بشكل متسارع، باتت عملية تحديد جنس الجنين أو "اختيار نوع المولود" ممكنة من خلال وسائل علمية متعددة أبرزها التلقيح الصناعي وطفل الأنابيب. ومع ذلك، يظل السؤال حاضرًا في ذهن الكثير من الأزواج: هل هذا الأمر جائز شرعًا؟ أم يتعارض مع مشيئة الله؟ وهل تدخل الرغبة في إنجاب الذكور أو الإناث في باب الاعتراض على القدر؟ هذه التساؤلات دفعت المؤسسات الدينية لتوضيح الموقف الإسلامي من هذه الممارسات.
أصدرت دار الإفتاء المصرية أكثر من فتوى خلال السنوات الماضية تؤكد فيها أن تحديد نوع الجنين ليس حرامًا في ذاته، بل جائز شرعًا بشرطين:
ألا يترتب عليه ضرر طبي على الزوجين أو الجنين.
ألا يكون بدافع قلة الرضا بمشيئة الله أو تفضيل جنس على آخر تفضيلًا يؤدي للظلم.
وقالت دار الإفتاء:
"الأصل في الأشياء الإباحة ما لم يرد نص بتحريمها، وتحديد جنس المولود من خلال وسائل علمية يُعد استخدامًا مشروعًا للعلم إذا خلت الوسائل من المحاذير الشرعية".
رغم الإباحة العامة، إلا أن عددًا من علماء الأزهر نبهوا إلى حالات معينة يتحول فيها الأمر إلى محظور شرعي، مثل:
إذا كان بدافع اجتماعي ظالم، كحرمان الإناث من الميراث أو معاملتهن دونية.
إذا ترتب على الأمر أذى نفسي للزوجة، كأن يُجبرها الزوج على إجراء عمليات لتحديد نوع الجنين قهرًا.
عند التلاعب بالجينات الوراثية بطريقة قد تؤذي الجنين أو تسبب تشوهات.
وفي هذه الحالات، يكون تحديد الجنس حرامًا لأن الوسيلة محرمة أو لأن النية نفسها فيها اعتراض أو ظلم.
من الناحية الطبية، يرى الأطباء أن تقنيات تحديد نوع الجنين أصبحت آمنة بنسبة كبيرة، خصوصًا مع تطور أدوات التلقيح المجهري واختبارات فحص الأجنة قبل الإرجاع (PGD)، والتي تُمكِّن من معرفة جنس الجنين بدقة قبل زرعه في رحم الأم.
ولكن يُنبّه الأطباء إلى أن تكرار المحاولات قد يُرهق جسد الزوجة نفسيًا وعضويًا، خاصة أن العمليات تعتمد على تنشيط المبايض، وسحب البويضات، والتدخل الهرموني. لذلك، يُوصى بعدم اللجوء لتحديد الجنس إلا إذا كان هناك سبب مقنع ومُبرَّر طبي أو اجتماعي حقيقي.
أشار علماء الدين والطب إلى أن هناك أسبابًا مشروعة لتحديد الجنس، منها:
وجود أمراض وراثية ترتبط بجنس معين (مثل الهيموفيليا المرتبطة بالذكور).
الرغبة في تحقيق التوازن الأسري بعد إنجاب أكثر من طفل من نفس الجنس.
ظروف نفسية لدى أحد الزوجين تجعل الحمل بجنس معين أدعى للاستقرار الأسري.
في مثل هذه الحالات، يُعد اللجوء لتقنية تحديد نوع الجنين تصرفًا عقلانيًا ولا يحمل أي اعتراض شرعي.
في المجتمع العربي، لا تزال ثقافة تفضيل الذكور قائمة في بعض الشرائح، وهو ما يجعل مسألة تحديد نوع الجنين محاطة أحيانًا بشبهة التمييز. بعض الأسر تضغط على المرأة لإنجاب "الولد"، ما يدفعها لإجراءات طبية مرهقة أو محرجة.
ومع ارتفاع الوعي لدى الشباب والنساء على حد سواء، بدأ التوجه يتحول من "التفضيل الجندري" إلى "الرغبة في التوازن الأسري"، وأصبح تحديد الجنس وسيلة علمية تُستخدم بمسؤولية أكثر في كثير من البيوت.
يرى خبراء علم النفس أن قرار تحديد نوع الجنين يجب أن يكون نابعًا من الزوجين فقط، دون تدخل من الأهل أو المجتمع، لأن:
الضغط المجتمعي قد يخلق توترًا كبيرًا في الحياة الزوجية.
شعور الزوجة بأنها مطالبة بـ«الولد» أو «البنت» فقط، قد يؤدي إلى اضطرابات نفسية.
فشل المحاولات قد يُسبب إحباطًا شديدًا أو تأنيب ضمير.
ويُوصى بأن يُتخذ القرار بعد جلسات مشورة أسرية ونفسية، لضمان أن العملية تتم بموافقة تامة ورضا داخلي من الطرفين.
سؤال متكرر يُطرح:
"هل السعي لاختيار نوع الجنين يُعد تدخلاً في مشيئة الله أو تغييرًا في خلقه؟"
وهنا يرد علماء الدين بأن:
الله هو الذي خلق هذه القدرات في البشر، وسخَّر لهم من العلم ما يُيسر حياتهم.
لا يُعد تحديد الجنس تغييرًا لخلق الله ما دام لم يصاحبه تحريف أو تشويه في الجينات.
كما أن اختيار الزمن أو المكان المناسب للحمل ليس اعتراضًا على القدر، بل هو من باب الأخذ بالأسباب.
في النهاية، يمكن تلخيص الموقف الشرعي من تحديد نوع الجنين في الآتي:
الأصل الإباحة، بشرط خلو الوسائل من المحاذير.
النية تلعب دورًا محوريًا؛ فإذا كان التحديد بسبب مشروع فهو جائز.
التقنيات الطبية الحديثة نعمة، لكن يجب استخدامها بوعي وأخلاق.
لا يجوز إجبار الزوجة أو الضغط عليها نفسيًا أو جسديًا.
يظل الرضا بقدر الله هو الأساس، حتى مع استخدام أدوات العصر.
في ظل انفتاح المجال الطبي على احتمالات لم تكن ممكنة من قبل، يصبح التحدي الحقيقي ليس في القدرة على تغيير الأمور، بل في القدرة على استخدامها بما يرضي الله والضمير والإنسانية. فالسعي وراء الولد أو البنت لا يجب أن يعمي أعيننا عن أن الأطفال رزق قبل أن يكونوا خيارًا. والرضا بالنتائج لا يقل أهمية عن الرغبة في التغيير.
جميع الحقوق محفوظة 2024 © | MedMarkt